الخميس، 26 نوفمبر 2015

كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي ـ وقفات تربوية

ما أجمل أن يسجل العلماء بعض المواقف في حياتهم, وكيف جاهدوا أنفسهم، وما الدروس المستفادة مما رأوا وسمعوا! فالناس يتعلمون بالعمل أكثر مما يتعلمون بالكلام.
وقد قمت بتلخيص كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي، فكان أهم ما وقفت عنده طويلاً واستفدت منه المواقف التربوية التي تعرض لها، وهاكم بعضاً منها ملخصة، مع تصرف يسير.

■ ترك ابن الجوزي شيئاً لله فعوضه الله خيراً منه :
يقول : قدرت في بعض الأيام على شهوة للنفس، هي عندي أحلى من الماء الزلال في فم الصادي، وقال التأويل : ما ههنا مانع ولا معوق إلا نوع ورع، وكان ظاهر الأمر امتناع الجواز، فترددت بين الأمرين فمنعت نفسي عن ذلك، فبقيت حيرتي، فقلت لها : يا نفسي، والله ما من سبيل إلى ما تودين ولا ما دونه، فتقلقلت، فصحت بها، كم وافقتك في مراد ذهبت لذته، وبقي التأسف على فعله، فقدري بلوغ الغرض من هذا المراد، أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف زمانها.
فقالت : كيف أصنع ؟
فقلت : هأنذا أنتظر من الله عزّ وجل حسن الجزاء على هذا العمل فأسطره إن شاء الله، فإنه قد يعجل جزاء الصبر، وقد يؤخره، فإن عجل سطرته، وإن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه، فإنّ من ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه.
والله إني ما تركته إلا لله تعالى، ويكفيني تركه ذخيرة، حتى لو قيل لي : أتذكر يوماً آثرت الله على هواك ؟
قلت : يوم كذا وكذا.
وكان هذا في سنة 561 هجرية، فلما دخلت سنة 565 هجرية عوضت خيراً من ذلك، فقلت هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا، ولأجر الآخرة خير والحمد لله.

■ ابن الجوزي يجاهد نفسه خوفاً من غضب الله وثقة بأنه محاسب على كل صغيرة وكبيرة :
يقول : تراعنت عليَّ نفسي في طلب شيء من أغراضها، بتأويل فاسد فقلت لها : بالله عليك تصبري، إذا هممت بفعل فقدري حصوله ثم تأملي عواقبه، وما تجنيه من ثمراته، فأقل ذلك الندم على ما فعلت، ولا يؤمن أن يثمر غضب الحق عزّ وجل وإعراضه عنك، ثم اعلمي أيتها النفس أنه ما يمضي شيء جزافاً، وأنّ ميزان العدل تبين فيه الذرة، فتأملي الأموات والأحياء، وانظري إلى من نشر ذكره بالخير أو الشر.

■ إنّ الله سريع الحساب :
يقول ابن الجوزي : أطلقت نظري فيما لا يحل لي ثم كنت أنتظر العقوبة، فألجئت إلى سفر طويل، لا نية لي فيه، فلقيت المشاق.
قلت : أهدي هذا الموقف للعاكفين على الفضائيات والمجلات والأفلام والأغاني والصور، وما في هذا كله من عفن وفساد.

■ علماء يداهنون من أجل الدنيا :
يقول ابن الجوزي : وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يَغْشَوْنَ الولاة لأجل نيل ما في أيديهم، منهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أنّ كمال العز والبعد عن الرياء يكون في البعد عن الولاة الظلمة، ولم نر من صحّ له هذا إلا في أحد رجلين :
من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وكذلك ابن المبارك.
من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي، وأحمد بن حنبل.
ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات وربما تلف دينه.
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس، فإنه يجمع لك دينك، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين ولا آفة طرأت على عالم إلا بحب الدنيا، وغالب ذلك بسبب الفقر، فإن كان له مال يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل الشر خارج عن حيز العلماء.
قلت : ولا يتعارض هذا مع مواقف بعض العلماء الذين خالطوا الأمراء وأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر وتصدقوا بأموالهم على الفقراء وطلاب العلم، مثل الزهري مع عبدالملك بن مروان.

■ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا :
يقول ابن الجوزي : ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل وجه، فما رأيت طريقاً للخلاص، فعرضت لي هذه الآية : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ● وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) فعلمت أنّ التقوى سبب للمخرج من كل غم، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج، فلا ينبغي أن يتوكل المؤمن إلا على الله، فالله عزّ وجل كافيه، فيقوم بالأسباب ولكن لا يعلق قلبه بها.

■ احذر أن تتعدى حدود الله فتهون عنده وعند خلقه :
يقول ابن الجوزي : لقد رأيت من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه، ثم تعدى الحدود، فهان عند الخلق، فكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عزّ وجل في صبوته (أي في شبابه وميله إلى اللهو) مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم، فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.

■ هل تتأخر إجابة الدعاء بسبب المعاصي ؟
يقول ابن الجوزي : نزلت بي شدة وكاثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة، فانزعجت النفس فصحت بها، ويلك تأملي أمرك، أمملوكة أنت أم مالكة، أما علمت أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبت أغراضك، ولم تصبري على ما ينافي مرادك فأين الابتلاء ؟
ثم قلت لها : إنك قد استبطأت الإجابة وأنت سددت طرقها بالمعاصي كأنك ما علمت أنّ سبب الراحة التقوى : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ● وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
وقلت لها : إنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما فيه ضررك : (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ).

■ لا تظاهر مسلماً بالعداوة فقد تحتاج إليه :
يقول ابن الجوزي : مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما استطاع، فإنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته.
وإنّ الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يوماً ما، لكن كم من محتقر احتيج إليه، فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع وقت الحاجة ففي دفع ضر، ولقد احتجت في عمري إلى ملاحظة أقوام ما خطر لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم.

■ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون :
يقول ابن الجوزي : ولقد شاهدت رجلاً بجامع المنصور وهو يمشي كثيراً، فسألت ما السبب في هذا المشي ؟
فقيل لي : حتى لا ينام.
وهذه كلها حماقات أوجبتها قلة العلم، لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من النوم اختلط العقل وفات المراد من التعبد.

■ لماذا تأثر بعبدالوهاب الأنماطي وأبي منصور الجواليقي :
يقول ابن الجوزي : لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل ويسارعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ.
ولقيت عبدالوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة.
وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان ـ وأنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي، وكان على سمت المشائخ الذين سمعت أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول متقناً محققاً، وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما.
ففهمت من هذه الحالة أنّ الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (سورة السجدة : آية 24).
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (سورة الفرقان : آية 74).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق